الآن أصبحت أنا هو الموت، مدمر العوالم! عبارة قالها أبو القنبلة الذرية "روبرت أوبنهايمر" وهو نادم، لأنه يعلم أنه اخترع سلاح مدمر سيغير معالم الحياة مستقبلاً وسيقلب الموازين.
ربما هذا هو ما جعل المخرج كريستوفر نولان أن يخرج عن عادة سيرته السينمائية المليئة بأفلام السوبرهيرو وأفلام الخيال العلمي والتشويق... ويدخل غمار مغامرة فيلم تاريخي مبني على قصة واقعية.
لكن هل استطاع نولان أن يترجم للمشاهدين هذه القصة إلى عمل سينمائي مثير كعادة أفلامه السابقة؟
ملخص قصة فيلم Oppenheimer
تركز أحداث الفيلم على الفيزيائي ومدرس الفيزياء النظرية الأمريكي روبرت أوبنهايمر، حيث يحكي لنا عمله كمدير علمي على مشروع مانهاتن لتصنيع أول سلاح نووي في تاريخ البشرية خلال الحرب العالمية الثانية.
وقد اشتهر هذا العالِم بقولته الشهيرة عندما نجح في صنع أقوى سلاح مدمر في التاريخ: "الآن أصبحت أنا هو الموت، مدمر العوالم Now, I am become Death, the destroyer of worlds".
وقد استعان كريستوفر نولان بكتاب "الإله الأمريكي: انتصار ومأساة العالِم روبرت أوبنهايمر" للكاتبين كاي بيرد و مارتن شيرون الذي نُشر عام 2005، من أجل كتابة سيناريو الفيلم.
فيلم Oppenheimer سيُقسم المُشاهدين إلى فئتين!
هناك فئتين ستنبثق بعد مشاهدة الفيلم، فئة لن يعجبها الفيلم إطلاقاً، وفئة سيعجبها الفيلم جداً. لا وجود لأي فئة أخرى تعتبره لابأس به.
نبدأ بالفئة الأولى التي لن يعجبها الفيلم بسبب عدة عوامل، أولها المدة الزمنية للفيلم الطويلة التي تصل إلى ثلاث ساعات، ثم أضف لها أن هذا فيلم سيرة ذاتية تاريخي، وكما نعلم جميعاً أن هذه الفئة من الأفلام تطغى عليها الحوارات والمشاهد الدرامية التي تجعل من المدة الزمنية تتمدد أكثر.
الفيلم لا يحتوي على مشاهد الأكشن أو الإثارة الحربية... التي ترفع من درجة الحماس والأدرينالين عند المُشاهد لتصبح تلك المدة الزمنية قصيرة. وبالتالي من ينتظر من هذا الفيلم نفس ما شاهده في أفلام نولان السابقة مثل Interstellar أو Inception أو Tenet... التي تتميز بالمؤثرات البصرية المذهلة ومشاهد التشويق التي تحبس الأنفاس، فسيخيب أمله مع فيلم Oppenheimer.
نأتي الآن إلى الفئة الثانية التي سترى في هذا الفيلم ما لم تستطع أن تراه فيه الفئة الأولى. فيلم Oppenheimer يسمو إلى واحد من أفضل الأعمال السينمائية في السنين الأخيرة التي استطاعت أن تسرد سيرة ذاتية تاريخية بشكل إبداعي وفريد ومذهل، وذلك من خلال ثلاث عوامل أساسية:
الفيلم أساسه روعة الحوارات
على طول الثلاث ساعات تقريباً، هناك فقط حوارات ونقاشات بين طاقم تمثيلي هائل جداً تسرد لنا قصة الفيلم. روعة الحوار في مشاهد الفيلم لم يجعلني إطلاقاً أسقط في الملل أو الرتابة، لأن كما نعلم فالحوارات تحتوي فقط على كثرة الكلام، والكلام هو أبو الملل. أظنني شاهدت أكثر فيلم وصل إلى قمة الإبداع في أسلوبه في تقديم الحوار والنقاشات بين الشخصيات، مذهل!
روعة أداء شخصيات الفيلم لا تُوصف!
أمر لا نقاش فيه عندما يكون أمامك فيلم سيرة ذاتية تاريخي يبني قصته على الحوار والنقاشات، ثم لديك المخرج كريستوفر نولان، فتوقع تمثيل يبهرك، شخصيات تستطيع أن تجرك بروعة أدائها إلى متابعة الفيلم وإنهائه كلما رأيت أن الفيلم لا يزال طويل، وأظن أن الفيلم سيكتسح ترشيحات الأوسكار في فئات الشخصيات الرئيسية والشخصيات المساعدة.
وأكثر الشخصيات التي أعجبتني صراحة في الفيلم هي الشخصية الرئيسية من أداء الممثل "كيليان مورفي"، الذي قدم شخصية أوبنهايمر ليس على أكمل وجه، فأنا لا أعرف كيف كان "روبرت أوبنهايمر" في الواقع، لكن ما أعرف هو أنه أداء استثنائي. الشخصية الثانية من أداء الممثل "روبرت داوني جونيور" الذي أدى شخصية رئيس هيئة الطاقة الذرية الأمريكية عندها، وهو الآخر كان أدائه قمة في الروعة.
طريقة سرد الأحداث على خط غير مباشر
منظور كريستوفر نولان في تقديم الفيلم على شكل حقبات زمنية مختلفة بسرد غير مباشر كان في نظري إبداعي ورائع. لم يعتمد نولان على الطريقة الكلاسيكية في سرد الأحداث من النقطة أ إلى النقطة ب بشكل مباشر، بل اعتمد طريقة معروفة سابقا في العديد من الأفلام التي تنتقل بالقصة نحو حقبة زمنية متقدمة، ثم يعود إلى الحاضر، ثم ينتقل إلى حقبة زمنية متقدمة أخرى وهكذا... على طول الفيلم.
واعتقد أن هذا الاختيار زاد من جودة الفيلم، ونصب أمام المُشاهد تحدي من أجل أن يركز أكثر ليفهم تسلسل الأحداث. وأظن أن هناك العديد من المُشاهدين سيجدون صعوبة في فهم الفيلم في المرة الأولى، وبالتالي فمشاهدة ثانية ستكون ضرورية إذا كنت من الفئة الثانية التي أعجبها العمل السينمائي.
موسيقى تصويرية تُطرب الأذن ومؤثرات بصرية منعدمة تقريباً!
© 2023 Universal Pictures |
الموسيقى التصويرية للفيلم كانت لها لمسة مكملة لروعة الفيلم، فرغم أن الفيلم يحكي عن حقبة زمنية في الماضي إلا أنه يحتوي في بعض المشاهد على نبرات موسيقية مستقبلية، تبدو وكأنها من زمن في المستقبل، وهذا بالضبط ما جعلني أنغمس أكثر مع الفيلم.
عند نقطة معينة من الفيلم بعد نجاح صناعة القنبلة الذرية، أصبح يراود شخصيتنا الرئيسية أوبنهايمر أفكار مشكوك فيها، أصبح يشعر بالندم وكأنه يقول في نفسه "يا ليثني لم أقم بذلك"، ومن هنا جاءت تلك العبارة من البداية "الآن أصبحت أنا هو الموت، مدمر العوالم"، لأنه أصبح يعلم أن المستقبل لن تكون عواقبه حميدة عندما اخترع هذا السلاح المدمر، الذي أصبح يعلم عندها أن الجميع سيتسابق للحصول عليه، ولن تكون الحروب مستقبلاً حروباً كلاسيكية، بل ستكون حروب نهاية العالم بهكذا أسلحة خطيرة.
وقد استطاعت الموسيقى التصويرية في مراحل معينة من الفيلم أن تجسد هذه النظرة المستقبلية التي تتميز بالتحذير والندم والخطر.
أما بالنسبة للمؤثرات البصرية فهناك أمر صادم ومذهل في الوقت ذاته يصعب علي تصديقه، حيث قال نولان في أحد المقابلات الدعائية للفيلم بعد إصداره أن استعماله للمؤثرات البصرية شبه منعدم في الفيلم، بمعنى أن أغلب تلك المشاهد التي ستراها تم إعدادها وتصويرها واقعياً بالاستعانة فقط بالأضواء والتلاعب بطريقة التصوير، وبالاعتماد كذلك على تفجيرات حقيقية قاموا بها. المؤثرات البصرية تكاد تكون منعدمة في الفيلم!
فيلم Oppenheimer ضمن قائمتنا لأفضل 10 أفلام أجنبية لسنة 2023 التي تستحق المُشاهدة تعرف على القائمة
ختام
في الأخير، أعتقد أنك إذا وصلت معي إلى هذه النقطة من مراجعتنا لفيلم Oppenheimer فأنت تعلم إلى أي فئة أنتمي أنا صاحب هذه المراجعة.
لكن كل ما سبق لا يعني أني أضع هذا الفيلم في المرتبة الأولى أو في مراتب متقدمة بين أفضل أفلام كريستوفر نولان، إذا اطلعت على قائمة "ترتيب جميع أفلام نولان من السيء إلى الجيد" ستجد أن هناك أفلام أخرى له أعتبرها أفضل وأروع من فيلم Oppenheimer.